لم يُرِده سعد الحريري بهذا العُسر. بدا العامُ بالنسبة إليه مُستدهِرًا. آمن، هو الطيبُ والودودُ القريبُ في القلب الى القلوب وفي الوجه الى الوجوه، في أنّ مع كلِّ عسرٍ يُسرًا لا مناص.
ظالمًا بدا العامُ في حقّ رجلٍ خسرَ الكثير من رصيدَيه الشعبي والمالي كرمَى استعادة دور الدولة. ظالمًا بدا العامُ في حقّ رجلٍ “سُجِن” على أيدي الأقربين وحُرِّر على أيدي من كان يعتبرهم “الأبعدين".
لا يستحقُّ رئيس حكومة لبنان الشاب عامًا بهذه القساوة، بعدما محت خواتيمُه إنجازات مطالعِه. ليس الحريري عابرَ طريق اشتهى عبورَه من أجل عودةٍ كان يمكن أن يشتريَها بماله المتناقص. لم يُرِد أن يكون في الأساس عابرَ طريق. كرّس الرجل عهدًا في أواخر العام 2016 قبل أن يبني منزله الحكومي في أواخر العام نفسه ويطلق قطار الإنجازات في العام الفائت.
كثيرًا ما “اتُّهم” الحريري بالتماهي الشديد مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حدّ الذوبان ومع ذلك أنجزت حكومتُه تشكيلاتٍ قضائيّة وتعيينات دبلوماسية ومراسيم نفطيّة وموازنة عامة. كثيرًا ما “اتُّهم” الحريري بمنح إيران في لبنان حيزًا من خلال حليفها حزب الله، ومع ذلك أنجِز في عهد حكومته قانون انتخاب نسبي، وقانون انتخاب المغتربين، وقانون سلسلة الرتب والرواتب.
لم يهنأ الحريري بعامِ إنجازاته التي ما حقق ربع ربعها في ولايته الحكومية الأولى. لم تطُلْ “نشوة” الخروج بعينٍ جاحظةٍ أمام اللبنانيين لإعلان انتصار الدولة ومؤسساتها وحقوق الموظفين والأساتذة. ذات ليلة غير قمراء من العام 2017 “المشؤوم” استُدِعي الرجل الى السعودية رئيسَ حكومةٍ ليعود رئيس حكومة مستقيلًا. وحده سعد الحريري يعلم ما حصل في تلك الأيام التي لا تنفكّ الصحف العالمية، ولا سيما الأميركية، تكتب عنها وربما تغالي في توصيف اسودادها. في تلك الأيام السبعة عشر العصيبة، فهم الحريري أنه أحسن الخيار، لا بل فهم أنّ أفضل “ضربة” ضربها في تاريخ عمله السياسي القصير نسبيًا تتجسّد في تزكيته العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية. انشرحَ صدرُ الرجل يومَ وصلته أخبارُ “عناد” الرئيس عون
وتمسّكه برئيس حكومة بلاده الى حين عودته الى الوطن وتعليل أسباب الاستقالة. بالدستور والالتفاف الشعبي غير المسبوق تسلّح رئيس البلاد لاستعادة رئيس الحكومة الذي لم ينقطع يومًا عن السمع كما فعل في تلك المرحلة. كالعادة تدخّلت واشنطن وباريس لصالح الحريري وخلفه لبنان. نال الحريري ما ناله من تعاطفٍ شعبي لم يكن الشارع الشيعي نفسه في منأى عنه. عاد الرجل بقوّة “الفاتح” أو بالأحرى استعيد من المملكة بخطٍ جويٍّ فرنسي-لبناني شاهرًا سيف “التريُّث”. لم يفهم كثيرون مقصده في ذاك الحين فيما فعلت قلّة: أجادت التقاط كلّ الإشارات التي ستكون كفيلة بتراجع الحريري عن استقالته بعد أيام من اعتصامه بالرَّيث. هكذا حصل. عادت الأيام القليلة الباقية من السنة “الصعبة” لتبتسم لرجل العهد الثاني، وعاد الشيخ سعد بسومًا منشرحَ الصدر لا يوفر سيلفي مع كلّ مارٍ أو مُعرِّج أو طالب لقاء.
انتهت المسرحية السعودية عند هذا الحدّ أو هكذا ظنّ اللبنانيون، أقله بالنسبة الى “سعد الجبّار”. أطلّ عامٌ جديد يعجّ بالتحدّيات المرميّة على منكبَي الحريري. ليس سهلًا ما عايشه في العام المنصرف ولكن الآتي لن يكون أكثر سهولةً لا سيّما أنّ الحريري بذاته يعرف أن سيكولوجيا التعاطف اللبنانية متحرّكة ولا أمان لها ولا ثقة في ديمومتها، وأنّ ما اعتبره بعضهم مرحلة “شفقة” وتزول قد يكون نظريّة قائمةً ركونًا الى حقيقة أن اللبناني، وبالذات الشارعَين المقابليْن (المسيحي والشيعي) يحبّان الرجال الأقوياء من قبيل السيد حسن نصرالله والرئيس ميشال عون والرئيس نبيه بري... يعلم الحريري (وإن لم يكن هو من يعلم، فالواعون المقرّبون منه سيخبرونه بذلك) أنّ سياسة “الحمل الوديع” يجب أن تتغيّر في العام الجديد كي يتمكّن سيّد بيت الوسط الآخذ في “تعزيل” البيت الداخلي، من قطف أضعاف ما كان يعِد نفسه بقطفه انتخابيًا وسياسيًا بعد “وعكته” السياسية في الرياض.